السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مع مطلع القرن الواحد والعشرين ومع كل ما حققه الإنسان من التقدم الهائل
في كافة الأصعدة والمجالات الحياتية، ومع ما يعيشه إنسان اليوم في عصر
الحداثة والعولمة، ولكن لم يستطع هذا التقدم أن يهدي إلى البشرية جمعاء
السلام والرفق والمحبة والألفة.
إذ تبقى هناك الكثير من مظاهر الهمجية والجاهلية الحاكمة في العصور
الغابرة عالقة ومترسخة في النفس البشرية وكأنها تأبى أن تنفض ذلك عنها،
رغم تغير الرداء الذي ترتديه.
و ظاهرة العنف عامة هي من هذا النوع الذي يحمل هذا الطابع، إذ إنها تهدد
المنجزات التي حققها الإنسان خلال السنوات الماضية، والأسوأ من ذلك كله
عندما يتعدى ويمتد هذا العنف إلى الفئات الضعيفة في المجتمع كالمرأة مثلا.
فالعنف ضد المرأة من الأمور التي تجلب انتباه المتصفح والمتتبع للأحداث..
تقول الأرقام أن :
* 52% من النساء الفلسطينيات تعرضن للضرب على الأقل مرة واحدة في العام 2000.
* 47% من النساء يتعرضن للضرب في الأردن بصورة دائمة.
* 30% من النساء الأمريكيات يتعرضن للعنف الجسدي من قبل أزواجهن.
* 95% من ضحايا العنف في فرنسا من النساء.
* 8 نساء من عشر ضحايا العنف في الهند.
* 60% من سكان الضفة الغربية وغزة دون 19 عاماً يتعرضون للتهديد الجسدي واللفظي والمطاردة والتوقيف والاعتقال.
والمتمعن لهذه الإحصاءات يرى إن العنف الوارد على النساء لا يختص فئة
معينة او ثقافة خاصة أو جنس محدد، وإنما يشمل كافة الثقافات والدول
المتقدمة منها أو ماتسمى بالدول النامية أو دول العالم الثالث.
والعنف يعني الأخذ بالشدة والقوة، أو هو سلوك أو فعل يتسم بالعدوانية يصدر
عن طرف بهدف استغلال واخضاع طرف آخر في اطار علاقة قوة غير متكافئة مما
يتسبب في احداث اضرار مادية او معنوية او نفسية (1). وحسب هذا التعريف فان
العنف يشمل السب والشتم والضرب والقتل والاعتداء و... الذي يأتي من طرف
رجل أو مؤسسة أو نظام أو حتى من طرف امرأة من أجل إخضاع المرأة والتسلط
عليها.
وهناك من يعتقد أن العنف هو لغة التخاطب الأخيرة الممكنة استعمالها مع
الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن ايصال صوته بوسائل الحوار العادي، ولكنه
يأتي مع المرأة اللغة الأولى للتخاطب معها كما يستخدمه البعض وكأن الآخر
لا يملك لغة أخرى لاستعمالها، ليجعل من هذا العنف كابوس يخيم على وجودها،
ليشل حركتها وطاقاتها، ويجعلها أطلال من الكآبة والحزن والخضوع.
- أسباب العنف
ونحاول في هذا المختصر القاء الضوء على الأسباب الكامنة خلف كواليس هذا النوع من العنف:
1- تعتبر المرأة نفسها هي أحد العوامل الرئيسية لبعض أنواع العنف
والاضطهاد، وذلك لتقبلها له واعتبار التسامح والخضوع أو السكوت عليه كرد
فعل لذلك، مما يجعل الآخر يأخذ في التمادي والتجرأ أكثر فأكثر. وقد تتجلى
هذه الحالة أكثر عند فقد المرأة من تلتجأ إليه، ومن يقوم بحمايتها.
2- الأسباب الثقافية؛ كالجهل وعدم معرفة كيفية التعامل مع الآخر وعدم
احترامه، وما يتمتعه من حقوق وواجبات تعتبر كعامل أساسي للعنف. وهذا الجهل
قد يكون من الطرفين المرأة والمُعنِّف لها، فجهل المرأة بحقوقها و
واجباتها من طرف، وجهل الآخر بهذه الحقوق من طرف ثان مما قد يؤدي إلى
التجاوز وتعدي الحدود.
بالإضافة إلى ذلك تدني المستوى الثقافي للأسر وللأفراد، والاختلاف الثقافي
الكبير بين الزوجين بالأخص إذا كانت الزوجة هي الأعلى مستوى ثقافيا مما
يولد التوتر وعدم التوازن لدى الزوج كردة فعل له، فيحاول تعويض هذا النقص
باحثا عن المناسبات التي يمكن انتقاصها واستصغارها بالشتم أو الإهانة أو
حتى الضرب.
3- الأسباب التربوية؛ قد تكون أسس التربية العنيفة التي نشأ عليها الفرد
هي التي تولد لديه العنف، إذ تجعله ضحية له حيث تشكل لديه شخصية ضعيفة
وتائهة وغير واثقة، وهذا ما يؤدي إلى جبران هذا الضعف في المستقبل بالعنف،
بحيث يستقوي على الأضعف منه وهي المرأة، وكما هو المعروف أن العنف يولد
العنف.ويشكل هذا القسم من العنف نحو83 بالمئة من الحالات.
وقد يكون الفرد شاهد عيان للعنف كالذي يرد على الأمهات من قبل الآباء بحيث
ينشأ على عدم احترام المرأة وتقديرها واستصغارها، فتجعله يتعامل بشكل عنيف
معها، ويشغل هذا المورد 39 بالمئة من الحالات.
4- العادات والتقاليد؛ هناك أفكار وتقاليد متجذرة في ثقافات الكثيرين
والتي تحمل في طياتها الرؤية الجاهلية لتمييز الذكر على الأنثى مما يؤدي
ذلك إلى تصغير وتضئيل الأنثى ودورها، وفي المقابل تكبير وتحجيم الذكر
ودوره. حيث يعطى الحق دائما للمجتمع الذكوري للهيمنة والسلطنة وممارسة
العنف على الأنثى منذ الصغر، وتعويد الأنثى على تقبل ذلك وتحمله والرضوخ
إليه إذ إنها لا تحمل ذنباً سوى أنها ولدت أنثى.
كما أن الأقوال والأمثال والتعابير التي يتداولها الناس في المجتمع عامة
بما في ذلك النساء أنفسهم والذي تبرز مدى تأصيل هذه الثقافة، بحيث تعطي
للمجتمع الذكوري الحق في التمادي ضد الإناث مثل: قول المرأة عند ضربها من
قبل الرجل (ظل رجل أحسن من ظل الحائط)، أو (المرأة مثل السجادة كلما دعست
عليها بتجوهر) أو... ولا يخفى ما لوسائل الإعلام من دور لتساهم في تدعيم
هذا التمييز وتقبل أنماط من العنف ضد المرأة في البرامج التي تبث
واستغلالها بشكل غير سليم.
5- الأسباب البيئية: فالمشكلات البيئية التي تضغط على الإنسان كالازدحام
وضعف الخدمات ومشكلة السكن وزيادة السكان و...، بالإضافة إلى ذلك ما تسببه
البيئة في إحباط الفرد، حيث لا تساعده على تحقيق ذاته والنجاح فيها كتوفير
العمل المناسب للشباب، فذلك يدفعه دفعا نحو العنف ليؤدي إلى انفجاره إلى
من هو أضعف منه (المرأة).
6- الأسباب الاقتصادية: فالخلل المادي الذي يواجهه الفرد أو الأسرة أو..،
والتضخم الاقتصادي الذي ينعكس على المستوى المعيشي لكل من الفرد أو
الجماعة حيث يكون من الصعب الحصول على لقمة العيش و..من المشكلات
الاقتصادية التي تضغط على الآخر أن يكون عنيفا ويصب جام غضبه على المرأة.
أضف إلى ذلك النفقة الاقتصادية التي تكون للرجل على المرأة، إذ انه من
يعول المرأة فلذا يحق له تعنيفها وذلك عبر إذلالها وتصغيرها من هذه
الناحية. ومن الطرف الآخر تقبّل المرأة بهذا العنف لأنها لا تتمكن من
إعالة نفسها أو إعالة أولادها.
ويأخذ العامل الاقتصادي نسبة 45% من حالات العنف ضد المرأة.
7- عنف الحكومات والسلطات : وقد تأخذ الأسباب نطاقا أوسع ودائرة اكبر
عندما يصبح بيد السلطة العليا الحاكمة، وذلك بسن القوانين التي تعنّف
المرأة أو تأييد القوانين لصالح من يقوم بعنفها، أو عدم استنصارها عندما
تمد يدها لأخذ العون منهم.
فمهما اختلفت الأسباب والمسببات تبقى ظاهرة العنف ضد المرأة ترصد نسبة
7%من جميع النساء اللاتي يمتن مابين سن الخامسة عشرة والرابعة والأربعين
في جميع أنحاء العالم حسب التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية.
- أين يكمن العلاج؟
بما أن ظاهرة العنف ضد المرأة ظاهرة قديمة وكبيرة الاتساع منذ أن كانت في
العصر الجاهلي تباع المرأة وتشترى، وتوأد في التراب وهي حية، فلا نتوقع أن
يكون حل هذه الظاهرة أو علاجها آنيا وبفترة قصيرة. وإنما لابد من كونه
جذريا وتدريجيا من أجل القضاء عليها أو الحيلولة إلى إنقاصها بأكبر قدر
ممكن. وذلك عبر:
* الرجوع إلى القانون الإلهي والشريعة الإسلامية التي تعطي للمرأة كامل
حقوقها وعزتها وكرامتها، كما وتقدّم لها الحماية والحصانة الكاملة. قال
تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) (البقرة 228)، (وعاشروهن بالمعروف)
(النساء 19)، وينظر إليها كإنسانة لها ما للرجل وعليها ما عليه، وأنها
مساوية له في جميع الأحكام إلا ما خرج بالدليل، (يا أيها الناس اتقوا ربكم
الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء)
(النساء1).
وقد أثبتت التجربة أن القوانين الوضعية لم تتمكن من إعطاء المرأة حقوقها وحمايتها، وإن كانت ترفع الشعارات لصالحها.
* تطبيق هذه القوانين الإسلامية من قبل المسئولين كالحكومات والمؤسسات
والمتصدين للأمور، ومعاقبة من يقوم بالعنف ضدها، كي تحس المرأة بالأمن
والأمان وهي قابعة في قعر دارها، أو عاملة في محل عملها، أو ماشية في
طرقات بلدتها.
* التوعية الاجتماعية سواء كان ذلك في المجتمع الأنثوي أو في المجتمع
العام، إذ لابد من معرفة المرأة لحقوقها، وكيفية الدفاع عنها، وإيصال صوت
مظلوميتها إلى العالم بواسطة كافة وسائل الإعلام، وعدم التسامح والتهاون
والسكوت في سلب هذه الحقوق، وصناعة كيان واعي ومستقل لوجودها.
ومن طرف آخر نشر هذه التوعية في المجتمع الذكوري أيضا، عبر نشر ثقافة احترام وتقدير المرأة التي تشكل نصف المجتمع بل غالبيته.
* إن الدور التي تلعبه وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة في بث
العديد من الثقافات إلى جميع المجتمعات سلبا أو إيجابا واضحة للجميع، لذا
من الضروري تعميم هذه التوعية لتصل إلى هذه الوسائل لتقوم بالتغطية
اللازمة لذلك.
ولابد من تضاعف هذه الجهود بالنسبة إلى وسائل التلفزة لحذف المشاهد
والمقاطع التي توحي من قريب أو بعيد إلى تدعيم ظاهرة العنف ضد المرأة.
* إنشاء المؤسسات التي تقوم بتعليم الأزواج الجدد على كيفية التعامل
الصحيح مع بعضهما البعض ومراعاة حقوقهما المتبادلة تجاه الآخر، وكيفية
تعامل الزوج مع زوجته ليكون مصداقا لوصايا المعصومين (ع) في حق المرأة،
فعن رسول الله (ص): (اتقوا الله عزوجل في النساء فإنهن عوان (أي أسيرات)
بين أيديكم، أخذتموهن على أمانات الله)، وعنه (ص): (مازال جبرائيل يوصيني
بالنساء حتى ظننت أنه سيحرّم طلاقهن).
وعن أمير المؤمنين (ع): (إن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة) و(الاستهتار
بالنساء حمق)، وعن الإمام زين العابدين(ع): (وأما حق زوجتك فان تعلم أن
الله عزوجل جعلها لك سكنا وأنسا، لأنها أسيرتك (فهي قد ربطت مصيرها
بمصيرك.إذن فهي مثل الأسيرة لديك) ولابد أن تطعمها وتكسوها، وإذا جهلت
عفوت عنها).
وكذلك تعليمهم على عدم توقع الزوج من زوجته مراعاة حقوقه وتنفيذها بجميع
حذاريفها وأدق تفاصيلها، ليقوم في المقابل بهضم حقوق زوجته قاطبة.
وأخيرا.. فان مشوار علاج العنف لازال في بداياته حتى تتغير العقلية
والرؤية العامة تجاه المرأة، وتصبح المرأة إنسانا ذو كيان، وذو اعتبار
ثابت لايمكن في أي وقت التنازل عن حقوقه والتضحية عن مكتسباته.
وإن أهم التحديات التي تواجه وقاية المرأة من العنف وتهددها هو الفرق بين
ما يقال وبين ما يمارس، فهناك كلام كثير يقال عن المرأة، لكن ما يمارس
يختلف ويناقض ما يقال، فمن المهم إذن أن يتطابق القول والممارسة في معاملة
المرأة.